البكور وصباح الإنجاز

من القواعد النبوية العظيمة ” بورك لأمتي في بكورها ” ، أعرف من حفظ القرآن بحرصه على وقت البكور ، ومن مارس رياضةً فتحسنت صحته بوقت البكور ، ومن أنجز من الأعمال الكثير بفضل وقت البكور ، وما يكون من الإنسان في أول اليوم ينسحب على بقية اليوم؛ إِنْ نشاطٌ فنشاط وإِنْ كسلاً فكسل، ولهذا قال بعض السلف: “يومك مثل جملك إن أمسكت أوله تبعك آخره” أي إذا حفظتَ أول اليوم فإنَّ بقية اليوم يحفظ لك.

ولهذا؛ جاء في صحيح مسلم عن عبد الله بن مسعود أنه أخذ يُسبِّح الله -تبارك وتعالى- حتى طلعت الشمس، فلما طلعت قال: “الحمد لله الذي أقالنا يومنا هذا، ولم يؤاخذنا بذنوبنا”، قال: “الحمد لله الذي أقالنا يومنا هذا” مع أنه في أول اليوم ! لكن لما يَسَّر الله له حفظ أول اليوم قال: “الحمد لله الذي أقالنا يومنا هذا” مع أنه في أول اليوم وفي بدايته! وهذا فيه شاهد إلى أنَّ العبد إذا حفظ أول اليوم بالذكر والطاعة سَلِم له يومه كاملا، وحُفِظ له يومه كاملا، وهذا معنى قول بعض السلف: “يومك مثل جملك إن أمسكت أوله تبعك آخره”.

ولهذا؛ يقول بعض العلماء كلامًا لطيفًا في هذا الباب: “أول اليوم شبابه وآخر اليوم شيخوخته ومن شبَّ على شيءٍ شابَ عليه”، فإذا شبَّ الإنسان في أول اليوم على الذِّكر بقي اليوم محفوظًا، وإذا كان في خلاف ذلك؛ في الكسل أو في النوم أو في الفتور.. أو في غير ذلك من الأمور؛ فإنه يشبُّ عليها ويأتي عليه آخِر اليوم وهو كذلك.

قوله: “كُنَّا نَغْدُو إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَجِيءُ الرَّجُلُ وَتَجِيءُ الْمَرْأَةُ” ؛ فيه عناية السلف بالبكور والغدوة وحفظهم لها؛ في الخير والعلم والفائدة، هذه حالهم، ولهذا قال: “كُنَّا نَغْدُو” ؛ أي كانت هذه طريقتنا، “نَغْدُو” أي نذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم الرجل والمرأة في الغداة أي في الوقت الباكر، وهذا فيه تحري البركة والتماسها التي جُعِلت في هذا الوقت المبارك.

فهذا شأن السلف -رحمهم الله تعالى- مع هذا الوقت المبارك، فما هو شأن الناس -ولا سيما في هذا الزمان- مع هذا الوقت، الذي هو بعد طلوع الفجر إلى ما قبل طلوع الشمس؟!

هذا الوقت يُعدُّ عند الناس في زماننا أفضل وقت للنوم، ولا يمكن أن يُساوَم في تفويت النوم في هذا الوقت.

مع أنّ السلف -رحمهم الله- ما كانوا ينامون في هذا الوقت حتى في شدة التعب، حتى ذكر ابن القيم – رحمه الله – عنهم أنهم إذا كانوا في سفر في الليل وأخذ بهم التعب مأخذًا شديدًا وصلَّوا الفجر لا ينامون، مع شدة التعب لا ينامون حتى تطلع الشمس رغبةً في عدم تفويت بركة هذا الوقت على أنفسهم فيبقون ذاكرين لله عز وجل، مستغفرين، حامدين شاكرين إلى أن تطلع الشمس ثم ينامون لما هُم عليه من تعب ونصب بسبب السفر والجهد الذي هم عليه.

قال ابن بطال رحمه الله : ما روي عنه صلى الله عليه وسلم: اللهم بارك لأمتي في بكورها ـ لا يدل أن غير البكور لا بركة فيه، لأن كل ما فعل النبي صلى الله عليه وسلم، ففيه البركة ولأمته فيه أكبر الأسوة، وإنما خص صلى الله عليه وسلم البكور بالدعاء بالبركة فيه من بين سائر الأوقات ـ والله أعلم ـ لأنه وقت يقصده الناس بابتداء أعمالهم وهو وقت نشاط وقيام من دَعَة فخصه بالدعاء، لينال بركة دعوته جميع أمته. اهـ.

قال ابن عثيمين رحمه الله في شرح رياض الصالحين عند شرح هذا الحديث: لكن وللأسف أكثرُنا اليوم ينامون في أول النهار ولا يستيقظون إلا في الضحى فيفوت عليهم أول النهار الذي فيه بركة. اهـ.